قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة في تناول مصطلح قمع الحريات أنه منعا لها وللاستفادة منها، بل وقد يتصور البعض أنه يوجد نهاية للحرية في استخدام ذلك المصطلح المنفر، ولكن لا ينظر البعض في تناولة الأمر إلى معنى الحرية في ذاتها.. فالحرية أسمى من أن تكون منحة أو هبة من شخص حتى يستطيع منعها.. فهي لا تتوقف إلا بخيار صاحبها، فهي معه منذ تنفسه الأول، وإن كانت تُوٌكل له الاستفادة منها تدريجيا بحسب درجة مسئوليته عنها، فهي وإن كانت حق إلا أنها ممتزجة بالمسئولية عنها.
ويبدأ التدرج منذ الطفولة حين يترك الوالدان لطفلتهما حرية الاختيار بين قطعتين من الملابس أو نوعين من الحلوى، منوهين عن إلزامية قرارها وعدم قابليته للتغيير، مرورا بسن التمييز حين تعرف أن هناك من الأفعال ما يمس الغير، وأن بعضا منها يعود بعقاب عليها، ومنها ما يعود بشكر وثناء، وتظل رحلة التعرف بالحرية مستمرة حتى تصل إلى مرحلة الرشد، فيخولها القانون الاستفادة من حريتها بصورة كاملة، وأكرر بأنها مرحلة الاستفادة الكاملة مما ولد معها.
وفي تلك اللحظة تبدأ رحلة الذكريات أيضا في المرور أمام مخيلتها، عائدة لها بكل ما تصورته قهرا وكان توجيها، وكل ما توقعته حرية وكان إهمالا، وتتذكر كم من مرة استطاعت أن تقهر تلك الأسوار الوهمية حولها منفذةَ رغبتها المُلحة بصورتها البسيطة مما اثار لتلك الرغبات لذة خاصة في فعلها في الخفاء ورغما عن أنف كل توجيه أو منع.
وتصطدم تلك الذكريات الطفولية بواقعها حين تجد كلمة "محظور" لا حصر لها أو حظر عليها في الحياة اليومية، أو بمعنى أوضح.. في حياتها الخاصة يوميا. فتصطدم بما يسمى بتقاليد، لا تدري مصدرها التاريخي أو الديني أو حتى القانوني، تحاول مرارا وتكرارا أن تلتهم ما يظهر من حريتها أولا بأول، فكلمة "لم نعتد ذلك" كثيرا ما تجرح تلك الأذن، والتي لطالما ظلت مستمعة طيلة تلك السنين ما ترفض الاقتناع به بلا حيلة للرفض.
فتجد تلك المغلوبة على أمرها في مجتمع بالكاد يعترف لها ببعض الحقوق- أن حريتها صارت كلمة مشوشة مشوبة بالكثير من قيل وقال، ولا تدرك يقينا من الذي يقول.. هل حريتها مقيدة من المجتمع أم من ذكور عائلتها؟ أم هي من لا يستطيع أن يقتنص تلك الكلمة الحائرة؟
بين شبهات قانونية ودينية واجتماعية تظل حريتها حائرة بين قمع الرأى في دولة بوليسية تجد في الحريات خطرا، وبين إلغاء أهميتها المجتمعية لأنها سوف تنتقل مسئوليتها من والدها إلى زوجها، ومن ذَكَرِ إلى خَلَفِهِ.
ولا ينتبه ذلك المجتمع ولو للحظة أنه قد شارك في هذا القمع تجاهها، فهو يعيب على القانون أنه لم يصُن حرية المرأة، والتي لطالما ظل هو نفسه - المجتمع – يحاول مرارا وتكرارا أن يسلبها إياه تماما.. فهى دوما غير قادرة على اتخاذ قراراتها المصيرية, حل مشكلاتها, أو حتى إدارة شئون حياتها الخاصة.. فدوما حريتها خطر عليها، هي عُرضة للخطر والانجراف في الخطيئة والعلاقات المشبوهة، هى دوما في حاجة إلى المراقبة المستمرة ومتابعة كل تصرفاتها واقتحام كل مساحاتها الخاصة.. إلى أكثر من ذلك بكثير من صور انتهاك حرية المرأة.
ويستمر القَمع ويتولد لدينا جيلا من فاقدات الثقة بالنفس.. من يجدن في الزواج قيدا جديد، يقبلن به أملا في تغيير شروط التقييد علها صارت أخف وطاة من ذي قبل، يرَون أن الرجال دوما متمتعين بكامل حريتهم في مجتمع ذكوري.
ولكن هل ما سبق كان كافيا لإجهاض الحرية رغم أنها ليست هبة من المجتمع ولا القانون؟ دعني أقول إن التخيير في استخدام الحرية هو الحرية ذاتها.. فمهما كانت تلك العوائق المحيطة والمسماة قمعا فهي لا تنال سوى من ضمانات الحرية، ولكن الحرية ذاتها لا منح لها ولا منع، فالحرية تنبع من داخلنا، وهي من يُشٌكل ضماناتها ويُصيها، قد لا تتاح الفرصة لحظيا، ولكن مما لا شك فيه أن الحرية تفرض ذاتها، ولكم من قصص ميلاد ضمانات الحريات في بلاد مختلفة كانت بدايتها التمسك بالحرية والإيمان بها حتى صارت الضمانات أمرا واقعا غير قابل للنقاش.
وإن أتناول الحرية من منظور المرأة.. فالمرأة هي مرآة تنعكس عليها صورة المجتمع في تطبيق الحرية.. فهى إن لم يتاح لها التمتع بحريتها كاملة.. فكيف ستخرج لنا نصف المجتمع الآخر فاقدا لذلك المفهوم.. فاقدا لمعنى الحرية. فالمعادلة لن تكتمل سوى من تلك البداية، فلن نستطيع أن نخرج جيلا يدرك تماما مقدار حريته إن لم يتربى على يد مرأة تكون مرآته في معرفه حريته بعد أن تذوقتها في مجتمع لم يستنكرها عليها.
تم نشرها في الشروق بتاريخ 1/2/2013
http://www.shorouknews.com/menbar/view.aspx?cdate=01022013&id=4a810437-513c-44e8-8ddb-712164480925اضغط هنا